البداية من حيث انتهى الآخرون
في فجر يوم 6 نوفمبر 1975، بينما كان العالم يراقب بترقب، تحركت أكبر موجة بشرية سلمية في التاريخ المعاصر. لم يكن المشاركون في المسيرة الخضراء مجرد أرقام، بل كان كل واحد منهم يحمل قصة وتاريخاً. الأمهات حملن أطفالهن على الأكتاف، والشيوخ ساروا بعكازيهم، والشباب حملوا الأعلام والمصاحف. كانت لحظة فارقة ليس فقط في التاريخ المغربي، بل في تاريخ حركات التحرر العالمية. اللافت أن هذه المسيرة لم تكن مدعومة بأسلحة أو دبابات، بل بقوة الإرادة الشعبية والشرعية التاريخية. حتى أن الملك الحسن الثاني قال في خطاب له: "خذوا القرآن واعبروا، فإما النصر أو الشهادة". لم تكن مجرد مسيرة عابرة للحدود، بل كانت إعادة كتابة للجغرافيا السياسية بالوسائل السلمية، ما جعلها نموذجاً فريداً في حل النزاعات الترابية.
ذاكرة الأرض: قبل أن تصبح قضية
عمق العلاقة بين المغرب وصحرائه يتجاوز القرون القليلة الماضية. لو استطعنا أن نستمع إلى حكايات الرمال، لسمعنا قصصاً تعود إلى العصور الوسطى. في القرن الحادي عشر، نشأت دولة المرابطين من عمق الصحراء لتوحد المغرب الكبير والأندلس. كان يوسف بن تاشفين، القائد الصحراوي، هو من بنى مراكش وجعلها عاصمة لإمبراطورية امتدت من السنغال إلى الأندلس. وفي الأرشيفات التاريخية، نجد وثائق بيعة القبائل الصحراوية لسلاطين المغرب، مثل بيعة أهل الساقية الحمراء ووادي الذهب للمولى إسماعيل في القرن السابع عشر. حتى أن الرحالة الأوروبيين مثل ليون الإفريقي في القرن السادس عشر، وصفوا كيف كانت القوافل التجارية تنقل الذهب والعبيد والملح بين مملكة غانا ومدن المغرب عبر هذه الأراضي. لم تكن الصحراء أبداً أرضاً بلا صاحب، بل كانت جزءاً عضوياً من النسيج السياسي والاقتصادي للمغرب عبر العصور.
حين يصبح الاستعمار جارا
مع مطلع القرن العشرين، بدأت مأساة جديدة للصحراء. المؤرخ الإسباني مانويل كاستيانو يروي في مذكراته كيف كانت إسبانيا تتعامل مع الصحراء كمستعمرة استيطانية، حيث حاولت تغيير التركيبة الديمغرافية عبر توطين أوروبيين. لكن المقاومة كانت شرسة. في معركة الدامان 1908، استخدم المقاومون الصحراويون تكتيكات حرب العصابات ضد القوات الإسبانية المسلحة بالمدافع الرشاشة. وفي أرشيفات الجيش الإسباني، توجد تقارير عن "الرجال الزرق" (لقب لقبائل الصحراء) الذين كانوا يهاجمون الحاميات ليلاً ثم يختفون في الصحراء. الأكثر إثارة أن مقاومة الشيخ ماء العينين لم تكن عسكرية فقط، بل فكرية أيضاً، حيث أسس مدارس قرآنية وزوايا صوفية كانت تربي الأجيال على حب الوطن والدفاع عنه. هذه المقاومة الثقافية هي ما جعل الهوية الصحراوية المغربية صامدة رغم محاولات الطمس.
المحكمة التي أرادت أن تكون عادلة
قرار محكمة العدل الدولية في 16 أكتوبر 1975 كان لحظة تاريخية. المحكمة التي درست أكثر من 300 وثيقة تاريخية، توصلت إلى أن الصحراء لم تكن "أرضاً بلا سيد" عندما احتلتها إسبانيا. الوثائق التي قدمها المغرب شملت:
- معاهدات تجارية بين المغرب وبريطانيا (1791-1856) تذكر الصحراء كجزء من المغرب
- مراسلات دبلوماسية بين سلاطين المغرب والقوى الأوروبية
- شهادات رحالة ومستكشفين أوروبيين
- لكن الأهم من القرار نفسه كان رد الفعل الشعبي. الصحفي الفرنسي إريك لوران الذي غطى الأحداث آنذاك، يروي كيف تحولت المدن المغربية إلى ساحات احتفال بالقرار، بينما بدأت الاستعدادات للمسيرة الخضراء التي ستغير كل المعادلات.
المسيرة التي غيرت الجغرافيا
الأرقام الرسمية تقول إن 350 ألف مغربي شاركوا في المسيرة الخضراء، لكن الحقيقة أن كل المغاربة كانوا فيها. في القرى والمدن، كانت العائلات تودع أبناءها كما لو كانوا ذاهبين إلى حرب، لكنهم كانوا يحملون الزيتون بدلاً من السلاح. الصحفي الإسباني خوان غويتيسولو وصف المشهد بأنه "أعجوبة سياسية"، حيث تحركت جموع بشرية منضبطة تماماً وفق تعليمات الملك الحسن الثاني. الأكثر إثارة أن العديد من المشاركين كانوا أبناء مناطق شمال المغرب الذين لم يروا الصحراء في حياتهم، لكنهم شعروا أنها جزء منهم. هذه الوحدة الوطنية العفوية هي ما جعل المسيرة تنجح دون إراقة دماء واحدة، رغم كل التهديدات الإسبانية.
السنوات العجاف: حين يصبح الأخ عدواً
ما بين 1976 و1991، عاشت المنطقة واحدة من أغرب الحروب في التاريخ. من ناحية، كان المغرب يبني الجدار الأمني (أطول جدار عسكري في العالم بعد سور الصين) لحماية المدنيين. ومن ناحية أخرى، كانت الجزائر تدعم جبهة البوليساريو عسكرياً وسياسياً. تقارير منظمة العفو الدولية في تلك الفترة تذكر معاناة مزدوجة:
- في المناطق المحررة، كان المغرب ينشئ البنية التحتية من مستشفيات ومدارس
- في مخيمات تندوف، كان الصحراويون يعيشون في ظروف قاسية تحت سيطرة البوليساريو
- المفارقة أن العديد من قادة البوليساريو كانوا من الضباط الجزائريين المتخفين، كما كشفت وثائق ويكيليكس لاحقاً.
الحكم الذاتي: عندما يتحدث العقل
مقترح الحكم الذاتي الذي قدمه المغرب عام 2007 لم يكن فكرة مفاجئة. في الواقع، كان تتويجاً لتجربة طويلة من اللامركزية. الأرقام اليوم تتحدث عن نفسها:
- 70% من موظفي الإدارات المحلية في الصحراء من أبناء المنطقة
- ميزانية تنموية تصل إلى 8 مليارات دولار بين 2015-2021
- 1200 مشروع تنموي في العيون والداخلة وبوجدور
- حتى على المستوى السياسي، فإن معظم أحزاب المعارضة المغربية الكبرى تدعم هذا المقترح، لأنه يحقق التوازن بين الوحدة الوطنية والخصوصية المحلية.
اليوم: الأرض لا تزال تتذكر
المشهد اليوم في الصحراء المغربية ينقسم إلى صورتين متعارضتين. في الجانب المغربي، نرى:
- موانئ عالمية في الداخلة
- جامعات ومستشفيات متطورة
- مهرجانات ثقافية دولية
- بينما في مخيمات تندوف، لا يزال الآلاف يعيشون في خيام منذ 45 عاماً، محرومين من أبسط حقوقهم. تقارير الأمم المتحدة تتحدث عن انتهاكات جسيمة، بينما تقارير اقتصادية تؤكد أن الجزائر تنفق ملايين الدولارات على الدعاية للانفصال، بينما تهمل مواطنيها في الجنوب الجزائري.
الخاتمة: إلى متى؟
القضية اليوم تتجاوز النزاع الترابي. أصبحت اختباراً لإرادة المجتمع الدولي في مواجهة سياسة الأمر الواقع. السؤال الأهم: كم من الوقت سيستغرق العالم ليفهم أن حل النزاع ليس عبر تقسيم الدول، بل عبر بناء نموذج للتعايش مثل الحكم الذاتي؟ ربما تكون الإجابة في كلمات أحد سكان العيون الذي قال: "نحن لسنا ضحايا الجغرافيا، بل صناع التاريخ". الصحراء المغربية ليست مجرد رمال، بل هي شعب وأرض وتاريخ، وهذا الثالوث لا يمكن تفكيكه.
المراجع المعتمد:
– الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش: لجلالة الملك الراحل الحسن الثاني. مارس 1977.
– حسن حافظي علوي، وابراهيم بوطالب، الصحراء المغربية معلمة المغرب الجزء 26-27:
– العربي بنرمضان. مجلة سياسات عربية: العدد 23. نونبر 2016.
– مجلة المناهل: الصحراء المغربية فكر وابداع.
– خالد صقلي. مجلة لكسوس، العدد 11. 2017.
– بيير فيرموريين، تاريخ المغرب منذ الاستقلال، ترجمة عبد الرحيم حزل، افريقيا الشرق،2010، الدار البيضاء.ص، 141-142-143.
لا تقرأ وترحل، يمكنك ترك تعليق جميل