محمد بنعيسى، أحد أبرز الوجوه السياسية والثقافية في المغرب، رحل عن عالمنا في سنته الثامنة والثمانين، تاركًا وراءه إرثًا غنيًا من الإنجازات الدبلوماسية والثقافية. كوزير خارجية أسبق، وسفير، ووزير ثقافة، ومؤسس "موسم أصيلة الثقافي"، كان بنعيسى شخصية متعددة الأبعاد، جمعت بين السياسة والفن والثقافة، مما جعله أحد أعمدة النهضة الثقافية المغربية الحديثة.
بدايات وتعليم محمد بنعيسى
وُلد محمد بنعيسى في مدينة أصيلة (أزيلا)، المدينة التي ارتبط بها طوال حياته وأصبحت مركزًا لإبداعاته الثقافية. بدأ مسيرته العلمية بدراسة الصحافة في جامعة مينيسوتا الأمريكية، وهي الخطوة التي مهدت له الطريق ليصبح لاحقًا مديرًا لجريدة حزبه "التجمع الوطني للأحرار". هذه الخلفية الصحفية ساعدته على تطوير مهارات اتصالية قوية، مكنته من لعب أدوار دبلوماسية وسياسية بارزة.
المسار السياسي والدبلوماسي
بدأ بنعيسى مسيرته السياسية كنائب برلماني ممثلًا لمدينته أصيلة، ليصبح فيما بعد أحد أبرز الوجوه السياسية في المغرب. شغل منصب وزير الخارجية في عهد الملك الحسن الثاني، ثم سفيرًا للمغرب في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث لعب دورًا محوريًا في تعزيز العلاقات المغربية الأمريكية.
في عهد الملك محمد السادس، استمر بنعيسى في لعب أدوار دبلوماسية وسياسية مهمة، حيث شغل مناصب وزارية أخرى، بما في ذلك منصب وزير الثقافة. خلال هذه الفترة، حظي بدعم ملكي كبير لمشاريعه الثقافية، خاصة في مدينة أصيلة، التي تحولت تحت قيادته إلى مركز ثقافي عالمي.
"موسم أصيلة الثقافي": إرث ثقافي خالد
يُعتبر "موسم أصيلة الثقافي" أحد أبرز إنجازات محمد بنعيسى. أسس هذا المهرجان الثقافي عام 1978 بالتعاون مع صديق طفولته الفنان التشكيلي الراحل محمد المليحي. على مدى أكثر من أربعين عامًا، استضاف المهرجان شخصيات ثقافية وسياسية بارزة من العالم العربي وإفريقيا وأوروبا، ليكون منصة للحوار حول قضايا السياسة والثقافة والمستقبل العالمي.
الموسم، الذي يستمر لمدة شهر كامل، يشمل ندوات فكرية، وإقامات فنية، وورش عمل، بالإضافة إلى تجديد جداريات بيوت المدينة العتيقة. وقد تحولت أصيلة بفضل هذا المهرجان إلى مكان للتأمل والإبداع، يجذب فنانين ومفكرين من مختلف أنحاء العالم.
العلاقات الواسعة والتكريمات
عُرف محمد بنعيسى بعلاقاته الواسعة في القارة الإفريقية والمشرق العربي، حيث كان يتمتع باحترام كبير في الأوساط السياسية والثقافية. في عام 2008، تم تكريمه بجائزة الشيخ زايد للكتاب كأفضل شخصية ثقافية، تقديرًا لجهوده في تعزيز الثقافة العربية.
التحديات والإرث
لم يخلُ مسار بنعيسى من التحديات، حيث واجه نزاعات إعلامية وسياسية، أبرزها النزاع مع مجلة "لوجورنال" المغربية خلال فترة عمله سفيرًا في الولايات المتحدة. ومع ذلك، استمر في العمل بجد لتحقيق رؤيته الثقافية والسياسية.
في سنواته الأخيرة، كان بنعيسى يكرس جهوده لضمان استمرارية "موسم أصيلة الثقافي" بعد رحيله، داعيًا إلى مأسسة الدعم المالي والإداري للمهرجان. وقد تحولت أصيلة بفضل جهوده إلى مدينة تحمل أسماء كبار المثقفين والفنانين في حدائقها، مثل الطيب صالح، محمود درويش، ومحمد عابد الجابري.
محمد بنعيسى كان أكثر من مجرد سياسي أو دبلوماسي؛ كان رجل ثقافة بامتياز، سعى طوال حياته لتعزيز الحوار الثقافي والفني بين المغرب والعالم. إرثه في "موسم أصيلة الثقافي" يبقى شاهدًا على رؤيته الثاقبة وإيمانه بقوة الثقافة في بناء الجسور بين الشعوب. رحل بنعيسى، لكن إنجازاته ستظل خالدة في ذاكرة المغرب والعالم العربي.